في بعض بلاد العرب تصبح فترة ما قبل الانتخابات فرصة جيدة للشعوب لتتنسم أريج الحرية؛ فالساسة النافذون والأنظمة كذلك يجدون أنفسهم غالباً مضطرين لإظهار أنفسهم "ديمقراطيين" منفتحين، ما يجعل الناس حينها تتنفس الصعداء ريثما تعلن النتائج وتبدأ السلطة في ممارسة شموليتها، مكتشفة فور امتلاكها كل أدوات السلطة أنها "ابتعثت" لتنقذ البلاد من "الإرهاب" الذي ستمارسه القوة السياسية المنافسة بعد قليل!
في تونس، لا يختلف الأمر كثيراً؛ فخلاف تقديرات البعض بأن هذا البلد واسع الاحتكاك مع أوروبا بحكم الجغرافيا والتاريخ، سيكون نموذجاً للتعايش وتداول السلطة والممارسة السياسية التنافسية الناضجة بين التيارين الإسلامي والعلماني؛ فإن الضباب الكثيف الذي غطى البلاد منذ أكثر من عامين، وحالة الاحتقان غير المبررة إلا من زاوية التأثير الخارجي، يشيان بأن القادم في تونس لن يكون مزيداً من الإغراق في الحالة الشكلية الديمقراطية التي تعيشها تونس الخضراء.
فرص التعايش التي يعززها "انفتاح تونس على أوروبا وقربها منها" في نظر البعض هي إحدى أهم أسباب رفض أوروبا لتجربتها "الديمقراطية"؛ فالغرب لا يريد أن يعاني من وجود حركة إسلامية بالقرب من شواطئه الجنوبية، مثلما صرح بهذا رئيس فرنسا الأسبق فرانسوا ميتران علناً قبل ربع قرن حين قال: "فرنسا لن تسمح بقيام دولة إسلامية أصولية جنوبها"، ومهما كانت درجة مرونة حركة النهضة في تونس، واستعداداتها للتنازلات حد القبول بالغياب السياسي عن المنافسة في الانتخابات الرئاسية؛ فإن مجرد وجودها تتحرك سياسياً يعد أمراً غير مقبول من عواصم نافذة عديدة.
هي إذن بضعة أسابيع تفصلنا عن المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية (الإعادة بين المتنافسين الأولين)، وسنرى مدى دقة هذا التصور أم لا، لكن مهما يكن من أمر؛ فإن القوتين الكبريين في تونس الآن لا تؤمنان بوجود تجربة ديمقراطية حقيقية في البلاد يمكن أن ينجم عنها نظام تنافسي مستقر مثلما يشاهد على الشاطئ الشمالي من المتوسط؛ فنداء تونس، القوة الفائزة بالانتخابات النيابية، والتي تعد ائتلافاً سياسياً أشبه بالهجين الأيديولوجي لا يجمع بينه إلا كراهية أيديولوجية حركة النهضة، لا هم لها الآن سوى الحديث عن "استعادة هيبة الدولة"، وهي عبارة خشبية اعتيادية تلوكها ألسنة الحكام الشموليين في العالم، وتعبر عن قوانين وإجراءات سوف تتخذ لاحقاً لتقييد الحريات والعمل السياسي والاجتماعي، الحزبي، والأهلي، ومرشح الحزب الأول، الباجي قايد السبسي لم يخف أبداً توقه إلى نظام استبدادي إقصائي؛ فابتدر أنصاره بإطلاق حملته الانتخابية للرئاسة من أمام ضريح الحبيب بورقيبة، الرئيس الأسبق الذي يحمل تاريخاً ليس فقط سيئاً من الناحية الشرعية المباشرة دعت مفتي السعودية السابق العلامة عبدالعزيز بن باز والعلامة أبو الحسن الندوي والشيخ حسنين مخلوف وأبو بكر محمود جومي مفتي نيجيريا والدكتور محمود أمين المصري، إلى مكاتبته لإعلان توبته من هرطقاته، وإنما أيضاً من صعيد الممارسة السياسية الاستبدادية.. فزيارة الضريح تلك لا تفسر على أنها استهداء بتجربة ديمقراطية عريقة، وإنما تعبير عن رغبة جموح في عودة تونس إلى عقود القمع المظلمة.
أما الحركة الأخرى المنافسية في البرلمان، وهي النهضة؛ فإن انسحابها من مجرد اتخاذ موقف موحد تدعو إليه أنصاره من المرشحين الرئاسيين وتركها لهم "حرية الاختيار" بينهم فضلاً عن ترشيحها لمنافس ينتمي لها، لا يعني هو الآخر سوى أن هذه الحركة لا تتصور أنها في ميدان تنافسي ديمقراطي شريف، وإلا فإن حجتها السابقة في أنها لا تريد الاستئثار بالحكم رغم تهافتها قد نقضت بفوز قوة أخرى وتراجعها هي في البرلمان.. فما الذي تخشاه؟!
إن الذي تخشاه بات معروفاً للجميع؛ فالحركة أدركت أن الظرف ليس في صالحها، وودت لو أنها انسحبت من الحياة السياسية كلها اكتفاء بعملها الاجتماعي والدعوي، لكنها فقط تسعى إلى تأمينهما في ظل أجواء تراها غير مريحة، وتنذر بعواصف شرقية عاتية.
لم يبق إلا نحو شهرين فقط، وتبدأ سلطة رئاسية وحكومية، يتوقع أن يهيمن عليهما نداء تونس ما لم يحصل تغيير دراماتيكي في المشهد يأتي بمنصف المرزوقي إلى سدة الرئاسة مرة أخرى مستفيداً من الاضطراب الصحي للسبسي وانكشاف بعض الأوراق أمام الناخب التونسي قبل فوات الأوان، والحافز الثوري، وربما الدعم النهضوي الخفي له، لكن ما لم يحدث هذا؛ فإنه رغم كل التطمينات التي يرددها بعض قادة نداء تونس إلى جوار تهديداتهم للشعب بلافتة "استعادة هيبة الدولة"؛ فإننا تعلمنا في عالمنا العربي أن هذه اللافتة الأخيرة هي الفاعلة، وأن الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان والممارسة السياسية الحرة ليست إلا مسكنات لفظية أو قفازات تخفي خلفها يداً قمعية
أمير سعيد | 19/1/1436 هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق